اضغط هنا .. لترشيحى لأفضل مئة مدونة

الاثنين، ١٠ سبتمبر ٢٠٠٧

باقة زهور ... قصة قصيرة



أعمل فى مستوصف طبى ليس بالكبير، حيث إننى ما زلت طبيباً حديث التخرج، وأجد حنيناً فى أن أجالس أصحاب الأمراض المستعصية، وليست مجالستى لهم من باب الشفقة عليهم، ولكنى أرى فيهم حكمة أفتقتدها فى كثير من الناس، إنهم – وعلى الرغم من أن بعضهم صغير السنقد اقتربوا كثيراً من توديع دنياهم، فبدوا أنضج عقولاً، وأحن قلوباً، وأعذب حديثاً..بل ربما تجد فى شبابهم المفقود نتاج تضحية لم يقدمها من خاض أهوال الحروب وويلاتها.

أعمل مساءاً كل يوم عدا يوم الخميس فهو راحة، بالإضافة طبعاً إلى الجمعة عطلتى الأسبوعية، وعلى الرغم من معارضة أسرتى لعملى الليلى هذا، فإنى أحبه، وارتضيه عن نفس مطمئنة، فأنا أحب الليل ..وأعشق سكونه.. وهدوء دجاه..أشعر فيه براحة نفسية بالغة، عكس ما أشعر بها فى ضوء النهار الساطع المقلق، المبدد لأى ذرة سكون.

ذهبت ذات ليلة– كالمعتاد – إلى الطبيب المتخصص لأستشيره فى شئ.. وهناك وجدتها..جالسة على كرسى صغير متناسب أشد التناسب مع ضآلة حجمها..تنظر إلى الأرض..فى نظرة حالمة..مستكينة.. وادعة..لاتعبأ بأحد ممن يجلسون قبالتها أو بجوارها.

تلبس ثوباً وردى اللون..أنيق ولكنه ينطق بالبساطة ويكاد يفشى بتواضع الحال، حملقت فيها متمعناً فى شعرها الأسود الفاحم الناعم – كم أعشق هذا اللون – مسترسلاً على كتفيين صغيرين كاملى الاستدارة فى إبداع خلقى متكامل.

طالت نظرتى إليها..علها ترفع رأسها..لأظفر برؤية عينيها ولكنها أبداً لك تفعل، سألت سكرتيرة المكتب – أقصد غرفة الطبيب المختص – عنها، وفى همس قالت:

اسمها (زهرة)...حالة متقدمة من سرطان الدم

رباه..لا تخبرينى أن هذا الملاك...من الممكن أن يصاب بهذا الداء الخبيث، نظرت مرة أخرى إليها، ولكنها قامت وغادرت المكان دون التفاتة واحدة إلى غرفة الطبيب..

هرعت مسرعاً ورائها، وتابعت خطواتها الرشيقة على درجات السلم..وانقبض قلبى..

ماذا دهاه؟!

لم يختلج هكذا بين ضلوعى؟!..بل.. لم يزداد خفقاناً بهذه الطريقة؟!

أضحت حياتى كلها مبنية عليها، وأصبح ترددى على غرفة الطبيب دائماً، يوم أجدها جالسة على نفس ذات الكرسى، أشعر وكأن ملائكة السماء جميعهم ترفرف أجنحتهم على هذا الكرسى بالذات تحية لأخت كريمة عزيزة لديهم.

ويوم لا أجدها فلا تسل على كآبة نفسى، ولا على منحنى إيقاعى الذى يكون يومها فى الحضيض.

(زهرة)

قرأت أن كل إنسان يأخذ نصيباً ولو يسيراً من اسمه، ولكنى لم أصدق هذه المعلومة إلا هذه اللحظة.. هى زهرة حقاً..زهرة متفتحة..يانعة..مشرقة..ممتلئة بالحياة.. على الرغم من أيامها المعدودة.

أردت أن أحادثها، ولكنها لا تترك لى فرصة للحديث، تأتى قبل موعدها الذى حدده الطبيب بخمسة دقائق، تجلس على هذا الكرسى منتظرة، ناظرة إلى الأرض دائماً – لم أر عينيها مرة واحدة – إلى أن يأتى دورها وتدخل، وبعد دقائق..تخرج مسرعة إلى الشارع، ولا أراها.. ولا..حتى ألحق بها.

إن زاد انتظارها عن خمس دقائق، فهى تغادر المستوصف دون كلمة واحدة...أرى نظرات الإشفاق واضحة فى عينى السكرتيرة، ولكن ليس عليها ...بل على أنا

نعم على أنا..ولست أدرى مالسبب؟..ربما حيرتى هذه تثيرها وربما أيضاً تحزنها.

جئت ليلة لأراها..لم أجدها، ووجدت السكرتيرة تبكى، سألتها وأنا ملتاع ...ماذا حدث؟

أخبرتنى أنها فى غرفة الإنعاش!!...ماذا؟؟...لا أصدق..فى أى مستشفى لعين تكون، أخبرتنى بعنوانها ، انطلقت كجواد أسير تم فكه منذ لحظات، أعلم أنها ليست النهاية..أوقن بذلك..أنت لا تصدقنى وهذا شأنك!!

ولكى أقنعك عرجت على محل للزهور واشتريت باقة كبيرة من الزهور..اليوم ألقاها .. اليوم أكلمها.. أحدثها عن كل شئ..أخبرها بحبى ومراقبتى لها..كل شئ..

وصلت إلى المستشفى، هرولت إلى غرفة الإنعاش، نظرت عبر زجاجها، لأجد ملاكى الصغير، فى حالة استرخاء تام..باسمة الثغر..مشرقة الوجه..رباه...مغمضة العينين..لا أراهما مرة واحدة فى حياتى..أرى الممرضة تذرف دمعاً..ماذا حدث؟..تقوم..تمسح دمعها.. تمسك بالملاءة البيضاء و تجذبها إلى أعلى رأسها..ثم تتركها مغطاة الوجه والرأس والجسد...لا..لم يحدث هذا؟..لم .. لم..لم.؟! أتقدم دون أن يمنعنى أحد..أضع باقة الزهور الكبيرة بجوارها..أضعها ..وأضع دموعاً غزيرة....

بلا انقطاع.